العرب بين التدهور و النهوض
الإدارة المدرسية لكل الأطوار التعليمية :: ~*¤ô§ô¤*~ 00*لإدارة العامة *00 ~*¤ô§ô¤*~ :: منتدى البحوث التربوية والادارية
صفحة 1 من اصل 1
العرب بين التدهور و النهوض
العرب بين التدهور و النهوض
حتى وقت قريب ساد الظن لدى كثيرين من المعنيين بشؤون الفكر والإصلاح
الاجتماعي العام أنه قد تم التغلب على مشكلة الاحتلال العسكري الذي جثم على
أغلبية البلدان العربية والإسلامية (ولم يبق إلا الاحتلال الاستيطاني
الصهيوني)، وأن عبء التحرر من الاستعمار المباشر قد زال إلى غير رجعة، وأن
ما تملكه الأمة من طاقات يمكن أن يستثمر من أجل التصدي للمشكلات، وحتى وقت
قريب أيضاً ساد الظن بأننا ماضون على طريق التخلص من المشكلات الأخرى التي
أعاقت التقدم وعطلت نهضة الأمة منذ قرنين من الزمان تقريباً، ومن ذلك
القضايا المتعلقة بالاستبداد السياسي، والظلم الاجتماعي، والحريات العامة،
وأوضاع المرأة، والانحطاط الأخلاقي.
ولكن بدلاً من التقدم إلى الأمام إذا بمجتمعاتنا العربية والإسلامية تجد
نفسها تتقهقر إلى الخلف، وإذا بالقضية التي ظننا أنها حُلت تعود بشكل أكثر
شراسة، ألا وهي قضية الاستعمار في شكله العسكري المباشر، إلى جانب أشكاله
الفكرية والثقافية والاقتصادية والتشريعية غير المباشرة الأخرى التي لا
تزال تراوح مكانها. إن الأحداث الجارية في الآونة الأخيرة، كلها تشير إلى
عودة الشعور بالتبرم بشكل مضاعف مع عودة مشكلة الاحتلال العسكري التي غلب
على الظن أنها قد حسمت، وأن حزمة المشكلات قد أعيد إليها ما نقص منها في
وقت سابق، بما تحمله هذه العودة غير الحميدة من ضرورة إعادة ترتيب أولويات
التصدي لهذه المشكلات؛ وكأنه لم تمر مائتا سنة أو يزيد عندما نهضت قوى
الأمة الحية لمواجهة الغزو الغربي ورفعت في وجهه راية الجهاد. ومن ثم فإن
من المنطقي أن يعاد طرح السؤال الأكبر الذي تدخل تلك المشكلات كلها تحت
عباءته ألا وهو: لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم(1)؟
لقد طرح هذا التساؤل، وبهذه الصيغة التي تقارن بين المسلمين وغير المسلمين،
لدى رواد الفكر والإصلاح الإسلامي في العصر الحديث؛ أي منذ ما يقرب من
مائتي عام، ولم تختلف الإجابات التي قدموها إلا في بعض التفاصيل، أما جوهر
الأسباب كلها فقد كان واحداً لديهم وهو أن البعد عن جوهر الإسلام هو سبب
الأسباب التي أدت إلى التدهور، وأن التمسك بهذا الجوهر هو سبب الأسباب التي
تقود إلى النهضة.
وأياً ما كان الأمر فمثل هذا التساؤل يعدُ تساؤلاً أساسياً وحساساً في آن
واحد؛ فهو أساسي لأن الإجابة عنه سوف تعبر عن مدى وكيفية فهم صاحب الإجابة
للواقع الذي صار إليه حال المسلمين، ومثل هذا الفهم بدوره أمر ضروري،
كمقدمة ومدخل للتعامل مع هذا الواقع ووضع خطة لتغييره إلى ما هو أصلح. وهو
تساؤل "حساس" بالنسبة للمسلمين خاصة لأنه في صيغته المقارنة يفتح الباب
للمناقشة حول "الإسلام ذاته" وما إذا كان سبباً في انحطاط المسلمين؛ حسبما
يزعم البعض.
ويبدو لنا أن من اللازم بداية بيان: لماذا نهض المسلمون وازدهرت حضارتهم
وسادت الدنيا أول مرة؟ وذلك قبل المضي في بيان أسباب انحطاطهم وأفول نجم
حضارتهم، فثمة علاقة وثيقة بين الأمرين كما تقضي بذلك شهادة التاريخ، فقد
شهد أنهم يوم تمسكوا بتعاليم الإسلام سادوا وشادوا وعمروا الأرض وأناروا
للإنسانية طريق التقدم والرقي، وقدموا حضارة امتدت منافعها إلى كل
المجالات. بعد ذلك ابتعدوا عن التعاليم السامية لهذا الدين، وجهلوه
وأهملوه، ولبسوه كما يُلبَس الفرو مقلوباً... فوصلوا إلى ما هم فيه،
وسيظلون كذلك حتى يعودوا إلى دينهم مرة أخرى عودة صادقة وصحيحة.
وإذا كانت "العلة" في تنكر المسلمين لدينهم كما يرى كثيرون من رواد الإصلاح
فإن ما يوقع في الحيرة هو: لماذا إذن تخلى المسلمون عن تعاليم دينهم
وأهملوها بعد أن رأوا أنها كانت سبب عزهم ومجدهم؟ ليس ثمة بد من طرح القضية
ضمن إطار أشمل يفسر حركة التاريخ والسنن الكونية لصعود وهبوط الحضارات في
مسيرة التقدم الإنساني بصفة عامة.
إن قضية النهضة لا تخرج عن كونها سنة من سنن الله في حياة الأمم "فكل أمة
بين حالين لا ثالث لهما، يخلف كل منهما الآخر متى توافرت دواعيه وأسبابه،
هذان الحالان هما حال القوة وحال الضعف.. فالأمة تقوى إذا حددت غايتها،
وعرفت مثلها الأعلى، ورسمت منهاجاً عملياً ينظم حركتها، وصممت على الوصول
إلى الغاية وتنفيذ المنهاج ومحاكاة المثل الأعلى مهما كلفها ذلك من تضحيات،
وعندما تنسى الغاية وتجهل المثل وتضل المنهاج وتؤثر المنفعة والمتعة على
الجهاد، وتنحل الأخلاق، ويكون مظهر ذلك الإغراق في الترف والقعود عن
الواجب، حينئذ تأخذ الأمة في الضعف ويدب إليها دبيب السقم الاجتماعي، ولا
تزال تضعف حتى تهيئ لنفسها عوامل التجدد فتتجدد أو لا تهيئ لنفسها هذه
العوامل فتبيد. فالبشرية تسير قدماً نحو الكمال الذي كتبه الله لها يوم شاء
أن يستخلف الإنسان في الكون وسخر له ما في السموات والأرض، وهي في
محاولتها هذه أحياناً تستوحي الشعر والخيال وإن كانت بين الخطأ والصواب في
استلهامها هذا..
وأحياناً تستوحي الفكر والعقل فيرشدها إلى تجارب في تكوين الأمم وتربية
الشعوب كثيراً ما تكون طويلة المدى، وكثيراً ما تنزع بها المعاكسات
العاطفية إلى جهة الخطأ فتصبح عقيمة النتائج فاسدة الآثار، لهذا اقتضت حكمة
الله ورحمته بالناس أن يشد أزر العقل والقلب بنواميس ونظم إلهية تقرب على
الإنسان المدى وترشد البشرية إلى مدارج الكمال الذي كتب لها"(2).
وفي التاريخ شواهد تؤكد ما ذكرنا: فقيادة الدنيا كانت في وقت ما شرقية
بحتة، ثم صارت بعد ظهور اليونان والرومان غربية، ثم نقلتها نبوات موسى
وعيسى ومحمد عليهم جميعاً الصلاة والسلام إلى الشرق مرة ثانية، ثم غفا
الشرق غفوته الكبرى ونهض الغرب نهضته الحديثة، فكانت سنة الله التي لا
تتخلف، وورث الغرب القيادة العالمية، وها هو ذا الغرب يظلم ويجور ويطغى
ويحار ويتخبط، فلم يبق إلا أن تمتد يد "شرقية" قوية يظلها لواء العدل
والمساواة والحرية والرحمة، فإذا بالدنيا تنعم مرة أخرى بالسلام الإسلامي.
_______________________
الهوامش :
1 - صيغة هذا السؤال هي عنوان كتاب للأمير شكيب أرسلان، والكتاب عبارة عن
جوابه، الذي يشرح فيه أسباب ارتقاء المسلمين في الماضي، ثم أسباب انحطاطهم
مع بيان أسباب تقدم الأوروبيين.
2 - انظر: حسن البنا، دعوتنا في كتاب الله: من وظائف القائد جريدة الإخوان المسلمين الأسبوعية 19ربيع الأول 1355ه -9 يونية 1936م.
__________________________________________________ _____
العوامل الداخلية لتأخر المسلمين
في سياق تتبعنا لحركة التاريخ يلفت نظرنا ما يمكن تسميته "دور المفسدين في
تخريب الحضارات"، وقد نال هذا الدور اهتمام القرآن وأحاديث الرسول ص حيث
نجد التأكيد الدائم على إدانة هؤلاء المفسدين من الظالمين والمستبدين
والجهال وأدعياء العلم والمغالين.
ويمكن القول إن قضية الانحطاط الحضاري يجب النظر إليها في إطار ارتباطها
بسنن كونية صارمة، منها ما ورد النص عليه في القرآن الكريم ومنها ما أكدته
حوادث التاريخ، إلا أن ذلك لا يعني عدم بحث القضية من منظور اجتماعي سياسي
لمعرفة كيف حدث الانحطاط من خلال الممارسات العلمية اجتماعياً وسياسياً حتى
فقد المسلمون مركز السيادة، وانتقلت قيادة البشرية إلى الغرب، وذلك كمحصلة
لمجموعة من عوامل الضعف والانهيار من داخل المجتمع ومن خارجه.
تشمل عوامل الضعف والانهيار النواحي الاجتماعية والسياسية والفكرية، وقد
تجسدت المحصلة النهائية التي أدت إليها تلك العوامل في حقيقة واقع
الانحطاط. تلك الحقيقة تجسدت مرتين في حياة الأمة الإسلامية: كانت الأولى
في القرن السادس الهجري، عندما تم تمزيق كيان الأمة والقضاء على الدولة
الإسلامية المركزية بأيدي التتار، وكانت الثانية في القرن الرابع عشر
الهجري عندما سقطت البلدان الإسلامية واحدة تلو الأخرى تحت هيمنة الاستعمار
الأوروبي، وفي المرتين كانت عوامل التحلل والانحطاط قد تسللت إلى كيان
الأمة وتركت وراءها أمماً مبعثرة ودويلات صغيرة تتوق إلى الوحدة وتتوثب إلى
النهوض، لكنها لا تقدر على ذلك بسبب المنازعات والحروب الداخلية. وفيما
يلي بيان رؤيتنا لمختلف العوامل الداخلية التي أدت إلى الانحطاط:
1 - العوامل الاجتماعية: وهي عبارة عن مجموعة من الممارسات والسلوكيات التي
أدت إلى انقلاب في أوضاع القيم التي قام عليها المجتمع الإسلامي. وقد
تمثلت مقدمات هذا الانقلاب في "ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وترك
التواصي بالحق والصبر وإهمال التناصح، وفساد العرف العام، فاضطربت موازين
الحسن والقبح في الأمة، وفي ظل تلك الظروف حدث الانقلاب، وانهار البناء
الاجتماعي(1).
وفي تحليل عوامل الضعف في المجتمع يمكننا الانطلاق من قول الله تعالى: وإذا
أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها
تدميرا (16) (الإسراء).
ويرى ابن خلدون أن ظواهر الانغماس في "الترف" و"طغيان النساء" و"فسق
الشباب"؛ تلك الظواهر هي نتيجة لترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،
والابتعاد عن المبادئ والقيم التي حض عليها الإسلام، وحذر من التهاون فيها.
وثمة علاقة بين شيوع عناصر التحلل وتداعيات نتائجها في المجتمع، وبين أن
يصبح هذا المجتمع عرضة للوقوع تحت هيمنة قوى أجنبية متسلطة فيظهر من ثم
"الاستعمار"، وهذه العلاقة هي التي عناها مالك بن نبي فيما بعد بما أسماه
"القابلية للاستعمار"، حيث يصير الاستعمار في تلك الحالة "ضرورة
تاريخية"(2).
ولكن من المسؤول عن بدء سريان عوامل التحلل والضعف الاجتماعي في كيان
الأمة؟ يرى البعض "أن طغيان النساء هو الشرارة الأولى التي تفسد الحياة
الاجتماعية للأمة(3)، ويحدد ما يعنيه بطغيانهن فيقول: "إذا جاوزت المرأة
الحدود التي حدها لها الدين وخرجت على قانون الطبيعة وخالفت وظيفتها في
الحياة وتناهت في التزين والتبرج (...) ودانت بالإباحية والتهتك، كان ذلك
أول مؤذن بدبيب الفساد إلى صميم الأمة القوية"(4)، كما قال الإمام البنا
يرحمه الله.
وطغيان النساء سبب للفساد من منظور أن الطغيان في أي شيء يمكن أن يؤدي إلى
الانحلال، لكنا نميل إلى اعتبار ما ذكره البنا عن طغيان النساء وتجاوزهن
وظيفتهن في الحياة مظهراً من مظاهر الانحطاط والتدهور في حياة الأمة أكثر
من كونه سبباً من أسبابه، فضلاً عن أن يكون أول بداية للفساد في "صميم
الأمة القوية"، وذلك لسببين على الأقل: الأول هو أن ما ذكره لا ينطبق على
ما حدث للأمة الإسلامية في الماضي وهي قوية، إذ من الأرجح أن تكون جرثومة
الفساد السياسي واستبداد الحكم هي أصل كل فساد جرى بعد ذلك في المجتمع،
والثاني هو أن ما ذكره لا ينطبق على واقع الأمة في العصور الحديثة، حيث
كانت قد وصلت بالفعل إلى أدنى دركات الضعف والاستكانة، كما أن أوضاع المرأة
كانت في غاية السوء، الأمر الذي دعا أنصار التغرب والاقتداء بأوروبا إلى
المناداة بتحرير المرأة ومنحها حقوقها ومساواتها بالرجل... إلخ.
والحق أنه لا يمكن فهم العبارات السابقة عن المرأة ودورها إذا طغت بالمعنى
المشار إليه في إفساد الحياة الاجتماعية، بعيداً عن سياق الجدل الفكري
وخصائص المرحلة التي هيمن فيها الاستعمار الأوروبي على العالم الإسلامي
خلال القرنين الماضيين؛ إذ كان الصراع دائراً على أشده خلال العشرينيات
والثلاثينيات من القرن العشرين حول ما كان يسمى "القديم" و"الجديد"، وإلحاح
أنصار الجديد في الدعوة لخروج المرأة ومشاركتها للرجل في العمل مشاركة
الند للند في كل الأعمال بلا تمييز، ونبذ الحجاب، والاقتداء بالمرأة
الغربية في كل شيء كجزء من التوجه العام لدعاة "التغرب" أو "الفَرْنَجة".
وكان لابد في ظل هذا المناخ من التحذير من مخاطر التوجه نحو الغرب
لاعتبارات كثيرة منها ما يتعلق بقضية الاستقلال، ومنها ما يتعلق بالهوية
الإسلامية والحرص على عدم الذوبان في نمط الحياة الغربية.
____________________________
الهوامش
1 - انظر وقارن هذه النتيجة التي تؤدي إليها رؤية البنا مع ما يصل إليه مالك بن نبي، وجهة العالم الإسلامي، المجتمع س ذ.، ص 29 30.
2 - انظر: مالك بن نبي، وجهة العالم الإسلامي، ص18، 99، وتكاد رؤيته تتفق
تماماً مع ما ذكره البنا، والسبب الأساسي في هذا الاتفاق هو صدور البنا
وابن نبي عن مصدر واحد وهو القرآن وما نص عليه من سنن كونية مطردة.
3 - حسن البنا، من أعلام النبوة، ج. أ. المجتمع . س. 21213 ربيع الثاني 1353ه.
4 - المقال السابق نفسه.
__________________________________________________ _____
العوامل السياسية لتأخر المسلمين
بعد عرض العوامل الاجتماعية الداخلية لتأخر المسلمين نتطرق اليوم للعوامل السياسية:
2 - العوامل السياسية: وهي مجموعة العوامل التي ارتبطت بوضع السلطة في
تاريخ الدولة الإسلامية وانحرافات القائمين عليها في ممارساتهم المختلفة عن
النسق القياسي لها، كما كان في فترة الخلافة الراشدة. وأهم ما نركز عليه
في هذا الصدد كأسباب أدت إلى التدهور والانحطاط كثرة الخلافات السياسية،
وعودة النزعة العصبية والشعوبية، وانغماس حكام المسلمين في ألوان الترف
والتبذير (...) حتى أثر ذلك عن حكام المسلمين في كثير من العصور السابقة
ولا يزال كثير منهم حتى عصرنا الراهن ما لم يؤثر عن غيرهم، مع أنهم يقرأون
قول الله تبارك وتعالى: وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها
فحق عليها القول فدمرناها تدميرا (16) (الإسراء).
وينظر البعض إلى وصول عناصر غير عربية من الفرس وغيرهم إلى السلطة باعتباره
عاملاً من العوامل السياسية التي أسهمت في الانحطاط، والسبب في رأيهم أن
أمثال هؤلاء من الفرس والديلم والمماليك والأتراك وغيرهم هم "ممن لم
يتذوقوا طعم الإسلام الصحيح، ولم تشرق قلوبهم بأنوار القرآن لصعوبة إدراكهم
لمعانيه، مع أنهم يقرءون أي الخلفاء الذين استخدموا تلك العناصر في الحكم
قول الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم
خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد
بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون 118 (آل عمران) (1).
ويؤكد هذا المعنى الإمام محمد عبده، وهو يصور استبداد تلك العناصر بالسلطة
دون الخلفاء فيقول: "هنالك استعجم الإسلام وصارت الدولة في قبضتهم، ولم يكن
لهم ذلك العقل الذي راضه الإسلام، والقلب الذي هذبه الدين، بل جاءوا إلى
الإسلام بخشونة الجهل، يحمل ألوية الظلم، لبسوا الإسلام على أبدانهم، ولم
ينفذ منه شيء إلى وجدانهم، وكثير منهم كان يجعل إلهه معه يعبده في خلوته،
ويصلي مع الجماعات لتمكين سلطته، ثم عدا على الإسلام آخرون، كالتتار
وغيرهم، ومنهم من تولى أمره"(2).
إن ما سبق لا ينطوي على أي اتجاه للغض من شأن المسلمين غير العرب كما قد
يتبادر إلى الذهن فقط نحن نقرر حقيقة تاريخية أظهرت أن تلك العناصر أسهمت
في الإفساد للأسباب السابق ذكرها، وليس من الممكن إنكار الجهود التي بذلها
بعض المماليك والأتراك على سبيل المثال في مجال الدفاع عن ديار الإسلام
وتحريرها من التتار والصليبيين، من أمثال صلاح الدين الأيوبي، والظاهر
بيبرس، وسيف الدين قطز....الخ.
وثمة أهمية "لترف الحكام" وغرورهم بسلطانهم والانخداع بقوتهم في تفسير حالة
الانحطاط التي وصل إليها العالم الإسلامي؛ إذ غالباً ما يصحب الترف
والإهمال والطغيان وغياب الشورى إهمال النظر في التطور الاجتماعي وإهمال
مصالح الأمة بشكل عام، وينطبق هذا على القرون الأخيرة في تاريخ الدولة
الإسلامية، وهي القرون نفسها التي كانت أوروبا تشهد فيها حركات النهضة
والثورات الصناعية والاجتماعية والعلمية، ومن ثم يمكن القول إن إدانة سياسة
العزلة التي فرضتها الدولة العثمانية على العالم الإسلامي في العهود
الأخيرة لتلك الدولة، لا تقل أهمية عن إدانة الإعجاب بنمط حياة الغرب،
والاندفاع في تقليدهم فيما يضر ولا ينفع، مع النهي الشديد عن التشبه بهم،
والأمر الصريح بمخالفتهم والمحافظة على مقومات الأمة الإسلامية، والتحذير
من مغبة هذا التقليد، قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من
الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين 100 (آل عمران).
___________________________
الهوامش :
1 - انظر: حسن البنا، شعب دين الإسلام، مقال بمجلة التعارف الأسبوعية، 6 5
14صفر 1359 13مارس 1940، حيث يذكر: "أن ضعف المسلمين سياسياً وروحياً كان
على أيدي الموالي وأبناء الأجنبيات عنهن".
2 - انظر: محمد عبده، الإسلام والنصرانية، 134، 135.
__________________________________________________ _____
العلل الفكرية والعوامل الخارجية لتأخر المسلمين
* العلل الفكرية: إن المسلمين قد أصابت عالم أفكارهم مجموعة من العلل التي
أدت إلى الركود، وكانت من مظاهر الانحطاط في الوقت نفسه. وهي نابعة في
جملتها من الجهل بالإسلام، شأنها شأن العلل الاجتماعية والسياسية. ويمكن
القول إن "الخلافات الدينية والمذهبية" التي وقعت بين المسلمين تأتي في
مقدمة العلل الفكرية التي أدت إلى انحطاطهم، فمثل تلك الخلافات صرفتهم عن
الدين كعقائد وأعمال إلى ألفاظ ومصطلحات ميتة لا روح فيها ولا حياة.
وكان "الجمود" أو "كابوس التقليد" من أهم الآثار التي أوجدها "التعصب
للرأي، كما أن علة الجمود كانت في حد ذاتها من أخطر العلل التي أصابت
الحياة الفكرية، ويكفي أنها كرست حالة الفرقة وأدت إلى مزيد من تمزيق وحدة
الأمة في سبيل الانتصار للرأي والتشبث به، وعدم الاجتهاد لفهم آراء الآخرين
وإزالة نقاط الخلاف، وتوحيد قوى الأمة، ولمّ شتاتها لتكون أقوى على مواجهة
التحديات.
ويضاف إلى ما سبق ما تشهده مجتمعات الأمة أيضاً منذ قرنين تقريباً من
انقسام يشق النخب الثقافية والفكرية من أبنائها بين فريقين غير متجانسين
هما المتغربون والسلفيون، أما الفريق الأول من المتأوربين فأنصاره يدعون
إلى اقتفاء أثر الحضارة الغربية بحلوها ومرها، ما يحب منها وما يستكره (على
حد تعبير طه حسين الذي تزعم هذا الاتجاه خلال النصف الأول من القرن
الماضي)، وأما الفريق الثاني من المتمسكين بالأصول الكبرى التي قامت عليها
الحضارة الإسلامية وازدهرت بسببها فهم على النقيض من الفريق الأول، يقفون
موقف الأصالة والمحافظة على الهوية الذاتية للأمة، ويدعون إلى تأسيس النهضة
المرجوة على الأسس المستمدة من العقيدة الإسلامية التي تدين بها الأمة في
أغلبيتها الساحقة، ويرون أن التفريط في هذه الأصول هو السبب الرئيس لحالة
الانحطاط والتخلف التي تعانيها الأمة على كل المستويات السياسية
والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وأن طريق النهضة لابد أن يبدأ بالعودة
إلى هذه الأصول.
وفي رأينا أن للاستبداد السياسي دوراً في إيجاد واستمرار العلل الفكرية في
حياة الأمة، فالرؤساء والحكام الذين يحكمون بالقهر ويكبتون الحرية ويأبون
أن يصل بصيص النور إلى أممهم ورعاياهم، أو يتسرب شعاع العلم والمعرفة إلى
دورهم (...) سجانون، حكموا على هذه الشعوب بسجن مؤبد؛ لأنهم عن نور العلم
محجوبون، ومن لذة المعرفة محرومون.
* العوامل الخارجية : تتمثل هذه العوامل في محاولات القضاء على الأمة
الإسلامية من قبل أعدائها في العصور السابقة، ومن قبل القوى الاستعمارية في
العصر الحديث، وقد تمكنت هذه القوى من إخضاع البلدان الإسلامية كافة
ووضعها تحت سيطرتها منذ ما يقرب من قرنين.
ولا تنفصل محصلة العوامل الداخلية للانحطاط عن دور العامل الخارجي، فثمة
علاقة ارتباطية وثيقة بين الجانبين ضمن الإطار الأشمل للصراع الحضاري بين
الشرق والغرب؛ ذلك لأنه إذا كانت العوامل الداخلية قد مهدت للغزو من الخارج
وهو ما عبر عنه مالك بن نبي ب "القابلية للاستعمار" و"الاستعمار" فإن
التقاءهما تمخض عنه واقع العالم الإسلامي في تاريخه الحديث والمعاصر الذي
عبر عن وصول حالة الأمة الإسلامية إلى قاع التدهور الذي تعيشه في واقعها
الراهن.
ورغم كل ما سبق، ورغم أن كل الأوضاع في ظاهرها تدعو المتعجل إلى الشعور
بالعجز أو الإحباط من الإصلاح، فإن يقظة روح التحدي التي نشهدها على
مستويات متعددة: فكرياً وحركياً، سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، كلها ترجع
إلى اشتداد الهيمنة الاستعمارية، كما ترجع أيضاً إلى الرغبة في التخلص من
عناصر الضعف الداخلية. ونحن نختلف في رؤيتنا تلك للأثر الإيجابي للتحدي
الاستعماري الغربي، عن رؤية فريق المتغربين الذين رأوا في الوجود
الاستعماري عاملاً من عوامل التحديث والأخذ بأيدي البلدان المتخلفة نحو
التقدم والرقي "الغربي".
والسؤال الآن: ما الخلاصة العملية التي يمكن التوصل إليها من تفسيرنا
لأسباب الانحطاط وما وصل إليه حال الأمة؟ إن هذه الخلاصة يمكن صياغتها
بإيجاز في القول بأن سر تأخر المسلمين هو ابتعادهم عن دينهم، وأن هذا
الابتعاد قد نتج عن الإغراق في الترف وتمثل في الركون إلى الدعة، والتحلل
الأخلاقي، والفرقة والخلافات التي مزقت وحدة الأمة فكرياً وسياسياً
واجتماعياً، وسيادة أنظمة الحكم الاستبدادي، وتعطيل كثير من أحكام الإسلام
وشرائعه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، بما في ذلك تعطيل فريضة الشورى،
وفريضة الجهاد، فكان من نتيجة ذلك أن سهل على الاستعمار بسط سيطرته وتدمير
الدولة الإسلامية. وفي جملة واحدة فإن أعظم ما مني به المسلمون بعد
ابتعادهم عن دينهم هو داء الفرقة وانفراط عقد الوحدة.
__________________________________________________ _____
الأسس الروحية والدعائم السياسية للنهضة
تَبيَّن مما سبق ذكره في الأعداد السابقة على هذه الصفحة أن مفهوم النهضة
بحكم أنه مستمد من القرآن الكريم يتضمن التقدم المادي (التكنولوجي) أو ما
كان يسمى بمصطلحات بدايات القرن العشرين ب"التمدن"، هذا بشرط أن يكون
منضبطاً بالقيم الإسلامية، وخاصة ما كان من تلك القيم ذا طابع إنساني عام،
بالإضافة إلى طابعها الخاص على المستوى الفردي والاجتماعي كالعدل والمرحمة
والتعاون والأخوة الإسلامية.
لكن كيف يمكن أن يتحقق هدف النهضة عملياً ؟ ذلك لن يكون إلا بعودة المسلمين
إلى الإسلام وإحياء تعاليمه ومبادئه في مختلف مجالات الحياة، ومن استقراء
التاريخ نجد ما يؤكد ذلك؛ فيوم كان المسلمون مسلمين كانوا سادة، ويوم نبذوا
هذا الإسلام وشرعوا لأنفسهم وصلوا إلى ما هم فيه، وسيظلون كذلك حتى يعودوا
إلى دينهم. وتلخص العبارة السابقة ما يمكن أن نسميه "وجهة النهضة"؛ فهي
مرهونة بالعودة إلى الإسلام في صفائه الأول، لا بالتوجه ناحية "الغرب ".
وهذا ما نادى به معظم رواد التجديد والإصلاح الإسلامي في العصر الحديث منذ
محمد بن عبد الوهاب مروراً بالأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا وشكيب أرسلان،
وحسن البنا، وسيد قطب وغيرهم. فقد "انطلقوا من مبدأ التوحيد النظري بين
الإسلام والمدنية"(1) (أو النهضة) أما الأسس الجوهرية التي ينبغي التعويل
عليها من أجل تحقيق تلك النهضة عملياً، فغالباً ما نظروا إليها نظرة أحادية
تؤكد أساساً واحداً جوهرياً باعتباره محور القضية وما عداه فروع مكملة له،
فمثلاً "كان هذا الأساس عند بعضهم عقيدياً مشتقاً من عقيدة التوحيد، وكان
عند بعضهم الآخر سياسياً مستلهماً من ضرورة السلطة الوازعة، وكان عند
الآخرين أمراً قيمياً مؤسساً على القيم الاجتماعية والأخلاقية
والاقتصادية(2).
وقد أدرك البعض أن تعدد علل الانحطاط يستوجب تعدد الأسس التي تقوم عليها
النهضة، ومن هنا تعتبر سمة الشمول في النظر والإحاطة بالجوانب المختلفة
للقضية، إحدى المحددات المنهجية في التفكير بصفة عامة، وفيما يخص قضية
النهضة المنشودة بصفة خاصة.
وليس من المهم الآن الدخول في تفاصيل تفنيد الاتجاهات غير الإسلامية التي
جعلت "الغرب" قبلة لها، فقد ثبت لمعظم أصحاب تلك الاتجاهات أنفسهم خطأ
توجهاتهم نحو الغرب وتنكرهم للإسلام. إن المهم هنا هو بيان التصورات
الفكرية الخاصة بالأسس والدعائم التي تشكل في مجموعها شروطاً لتحقيق
النهضة. ويمكن تقسيم تلك الأسس إلى روحية ومادية، وتقسيم الدعائم إلى فكرية
وسياسية.
الأسس الروحية والمادية للنهضة .
إن علينا أن نولي اهتماماً كبيراً للجوانب الروحية والمادية معاً، كأسس
لازمة للنهضة، وذلك في مواجهة الأفكار التي تروجها الاتجاهات العلمانية
الداعية لاقتفاء أثر الغرب في كل شيء، حتى في الفصل بين الناحيتين المادية
والروحية. إن الأمة تحتاج في نهضتها إلى "الإيمان القوى.. المرتكز على
قواعد ثابتة من روحها ونظريتها.. وإلى القوة المادية التي يظهر بها هذا
الإيمان فيعرب للناس عن وجوده ويبرهن للخصوم على قوته وثباته"(3).
ويشمل الجانب الروحي كأساس للنهضة مجموعة من الأخلاقيات والفضائل النفسية
كلها ترتبط وتصدر عن "الإيمان بالله"؛ هذا الإيمان الذي يقتضي الإيمان
بعظمة الرسالة الإسلامية، والاعتزاز باعتناقها، والأمل في تأييد الله
لأهلها.
ولهذا فإن من المهم تبديد مشاعر اليأس لدى المسلمين وترسيخ الأمل في
نفوسهم. والعبر التي أشار إليها القرآن والتي نبهت إليها السنة وكذلك عبر
التاريخ وسنن الاجتماع، كلها تؤكد ما ذكرنا؛ فالقرآن يضع اليأس في مرتبة
الكفر، وكذلك يقرن القنوط بالضلال قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون
(56) (الحجر). وإن القرآن ليقرره ناموساً كونياً لا يتبدل ونظاماً ربانياً
لا يتغير: أن الأيام دول بين الناس وأن القوي (الغرب الآن) لن يستمر على
قوته أبد الدهر، والضعيف (أمة المسلمين الآن) لن يدوم عليه ضعفه مدى
الحياة، ولكنها أدوار وأطوار تعترض الأمم والشعوب كما تعترض الآحاد من
الأفراد.
ومن الأخلاق المرتبطة بالجانب الروحي والتي يجب أن يتحلى بها إنسان النهضة
الإسلامية المنشودة "خلق الصبر"، وهو أول اللبنات القوية في بناء الأمم
الناهضة، وذلك هو السر في أن الله فرضه على المؤمنين وأمرهم به "فلا نهوض
إلا بعزيمة ولا نصر إلا مع الصبر"(4). إن تلك الأخلاق وغيرها من الفضائل لن
تأتي من "الغرب" صاحب المدنية الحديثة؛ إذ إنه مفتقر إليها أصلاً، وإنما
مصدرها الوحيد بالنسبة لشعوب الأمة العربية والإسلامية هو "الإسلام".
وإذا كنا نرى ضرورة قيام النهضة على أسس تجمع بين الروح والمادة، فإن أنصار
"التغريب" مازالوا مصرين على آرائهم في ضرورة تقليد الغرب "وإلقاء قنبلة
الاستسلام للأوروبي"(5) حسب وصف علي شريعتي هذا في الوقت نفسه الذي سبق أن
انتقد فيه كبار مفكري الغرب حضارتهم ويضجون بالشكوى من المأساة الروحية
التي تعيشها المجتمعات الغربية.
علينا أيضاً ألا نغفل الجانب المادي كأساس للنهضة، وأن نؤكد أهمية ارتباطه
بالعوامل الروحية ومنظومة الأخلاق الفاضلة التي حض عليها الإسلام، وإذا كان
كثير من الناس يظن أن الشرق تعوزه القوة المادية من المال والعتاد وآلات
الحرب لينهض ويسابق الأمم التي سلبته حقه، فإن ذلك صحيح ومهم، ولكن أهم منه
وألزم القوة الروحية من الخلق الفاضل والنفس النبيلة، والإيمان بالحقوق
ومعرفتها، والإرادة الماضية في سبيل الواجب، والوفاء الذي تنبني عليه الثقة
والوحدة وعنهما تكون القوة. إن العالم الإسلامي لو آمن بحقه وغير من نفسه
واعتنى بقوة الروح وعني بتقويم الأخلاق لأتته وسائل القوة المادية من كل
جانب وعند صحائف التاريخ الخبر اليقين.
إن التراث الروحي لأمتنا من شأنه إذا قُدم بشكل صحيح، أن يقيل حضارة الغرب
الحديثة من عثراتها الروحية، بل إن الغرب نفسه مضطر إن عاجلاً أو آجلاً إلى
الاقتباس من "روحانية الشرق".
حتى وقت قريب ساد الظن لدى كثيرين من المعنيين بشؤون الفكر والإصلاح
الاجتماعي العام أنه قد تم التغلب على مشكلة الاحتلال العسكري الذي جثم على
أغلبية البلدان العربية والإسلامية (ولم يبق إلا الاحتلال الاستيطاني
الصهيوني)، وأن عبء التحرر من الاستعمار المباشر قد زال إلى غير رجعة، وأن
ما تملكه الأمة من طاقات يمكن أن يستثمر من أجل التصدي للمشكلات، وحتى وقت
قريب أيضاً ساد الظن بأننا ماضون على طريق التخلص من المشكلات الأخرى التي
أعاقت التقدم وعطلت نهضة الأمة منذ قرنين من الزمان تقريباً، ومن ذلك
القضايا المتعلقة بالاستبداد السياسي، والظلم الاجتماعي، والحريات العامة،
وأوضاع المرأة، والانحطاط الأخلاقي.
ولكن بدلاً من التقدم إلى الأمام إذا بمجتمعاتنا العربية والإسلامية تجد
نفسها تتقهقر إلى الخلف، وإذا بالقضية التي ظننا أنها حُلت تعود بشكل أكثر
شراسة، ألا وهي قضية الاستعمار في شكله العسكري المباشر، إلى جانب أشكاله
الفكرية والثقافية والاقتصادية والتشريعية غير المباشرة الأخرى التي لا
تزال تراوح مكانها. إن الأحداث الجارية في الآونة الأخيرة، كلها تشير إلى
عودة الشعور بالتبرم بشكل مضاعف مع عودة مشكلة الاحتلال العسكري التي غلب
على الظن أنها قد حسمت، وأن حزمة المشكلات قد أعيد إليها ما نقص منها في
وقت سابق، بما تحمله هذه العودة غير الحميدة من ضرورة إعادة ترتيب أولويات
التصدي لهذه المشكلات؛ وكأنه لم تمر مائتا سنة أو يزيد عندما نهضت قوى
الأمة الحية لمواجهة الغزو الغربي ورفعت في وجهه راية الجهاد. ومن ثم فإن
من المنطقي أن يعاد طرح السؤال الأكبر الذي تدخل تلك المشكلات كلها تحت
عباءته ألا وهو: لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم(1)؟
لقد طرح هذا التساؤل، وبهذه الصيغة التي تقارن بين المسلمين وغير المسلمين،
لدى رواد الفكر والإصلاح الإسلامي في العصر الحديث؛ أي منذ ما يقرب من
مائتي عام، ولم تختلف الإجابات التي قدموها إلا في بعض التفاصيل، أما جوهر
الأسباب كلها فقد كان واحداً لديهم وهو أن البعد عن جوهر الإسلام هو سبب
الأسباب التي أدت إلى التدهور، وأن التمسك بهذا الجوهر هو سبب الأسباب التي
تقود إلى النهضة.
وأياً ما كان الأمر فمثل هذا التساؤل يعدُ تساؤلاً أساسياً وحساساً في آن
واحد؛ فهو أساسي لأن الإجابة عنه سوف تعبر عن مدى وكيفية فهم صاحب الإجابة
للواقع الذي صار إليه حال المسلمين، ومثل هذا الفهم بدوره أمر ضروري،
كمقدمة ومدخل للتعامل مع هذا الواقع ووضع خطة لتغييره إلى ما هو أصلح. وهو
تساؤل "حساس" بالنسبة للمسلمين خاصة لأنه في صيغته المقارنة يفتح الباب
للمناقشة حول "الإسلام ذاته" وما إذا كان سبباً في انحطاط المسلمين؛ حسبما
يزعم البعض.
ويبدو لنا أن من اللازم بداية بيان: لماذا نهض المسلمون وازدهرت حضارتهم
وسادت الدنيا أول مرة؟ وذلك قبل المضي في بيان أسباب انحطاطهم وأفول نجم
حضارتهم، فثمة علاقة وثيقة بين الأمرين كما تقضي بذلك شهادة التاريخ، فقد
شهد أنهم يوم تمسكوا بتعاليم الإسلام سادوا وشادوا وعمروا الأرض وأناروا
للإنسانية طريق التقدم والرقي، وقدموا حضارة امتدت منافعها إلى كل
المجالات. بعد ذلك ابتعدوا عن التعاليم السامية لهذا الدين، وجهلوه
وأهملوه، ولبسوه كما يُلبَس الفرو مقلوباً... فوصلوا إلى ما هم فيه،
وسيظلون كذلك حتى يعودوا إلى دينهم مرة أخرى عودة صادقة وصحيحة.
وإذا كانت "العلة" في تنكر المسلمين لدينهم كما يرى كثيرون من رواد الإصلاح
فإن ما يوقع في الحيرة هو: لماذا إذن تخلى المسلمون عن تعاليم دينهم
وأهملوها بعد أن رأوا أنها كانت سبب عزهم ومجدهم؟ ليس ثمة بد من طرح القضية
ضمن إطار أشمل يفسر حركة التاريخ والسنن الكونية لصعود وهبوط الحضارات في
مسيرة التقدم الإنساني بصفة عامة.
إن قضية النهضة لا تخرج عن كونها سنة من سنن الله في حياة الأمم "فكل أمة
بين حالين لا ثالث لهما، يخلف كل منهما الآخر متى توافرت دواعيه وأسبابه،
هذان الحالان هما حال القوة وحال الضعف.. فالأمة تقوى إذا حددت غايتها،
وعرفت مثلها الأعلى، ورسمت منهاجاً عملياً ينظم حركتها، وصممت على الوصول
إلى الغاية وتنفيذ المنهاج ومحاكاة المثل الأعلى مهما كلفها ذلك من تضحيات،
وعندما تنسى الغاية وتجهل المثل وتضل المنهاج وتؤثر المنفعة والمتعة على
الجهاد، وتنحل الأخلاق، ويكون مظهر ذلك الإغراق في الترف والقعود عن
الواجب، حينئذ تأخذ الأمة في الضعف ويدب إليها دبيب السقم الاجتماعي، ولا
تزال تضعف حتى تهيئ لنفسها عوامل التجدد فتتجدد أو لا تهيئ لنفسها هذه
العوامل فتبيد. فالبشرية تسير قدماً نحو الكمال الذي كتبه الله لها يوم شاء
أن يستخلف الإنسان في الكون وسخر له ما في السموات والأرض، وهي في
محاولتها هذه أحياناً تستوحي الشعر والخيال وإن كانت بين الخطأ والصواب في
استلهامها هذا..
وأحياناً تستوحي الفكر والعقل فيرشدها إلى تجارب في تكوين الأمم وتربية
الشعوب كثيراً ما تكون طويلة المدى، وكثيراً ما تنزع بها المعاكسات
العاطفية إلى جهة الخطأ فتصبح عقيمة النتائج فاسدة الآثار، لهذا اقتضت حكمة
الله ورحمته بالناس أن يشد أزر العقل والقلب بنواميس ونظم إلهية تقرب على
الإنسان المدى وترشد البشرية إلى مدارج الكمال الذي كتب لها"(2).
وفي التاريخ شواهد تؤكد ما ذكرنا: فقيادة الدنيا كانت في وقت ما شرقية
بحتة، ثم صارت بعد ظهور اليونان والرومان غربية، ثم نقلتها نبوات موسى
وعيسى ومحمد عليهم جميعاً الصلاة والسلام إلى الشرق مرة ثانية، ثم غفا
الشرق غفوته الكبرى ونهض الغرب نهضته الحديثة، فكانت سنة الله التي لا
تتخلف، وورث الغرب القيادة العالمية، وها هو ذا الغرب يظلم ويجور ويطغى
ويحار ويتخبط، فلم يبق إلا أن تمتد يد "شرقية" قوية يظلها لواء العدل
والمساواة والحرية والرحمة، فإذا بالدنيا تنعم مرة أخرى بالسلام الإسلامي.
_______________________
الهوامش :
1 - صيغة هذا السؤال هي عنوان كتاب للأمير شكيب أرسلان، والكتاب عبارة عن
جوابه، الذي يشرح فيه أسباب ارتقاء المسلمين في الماضي، ثم أسباب انحطاطهم
مع بيان أسباب تقدم الأوروبيين.
2 - انظر: حسن البنا، دعوتنا في كتاب الله: من وظائف القائد جريدة الإخوان المسلمين الأسبوعية 19ربيع الأول 1355ه -9 يونية 1936م.
__________________________________________________ _____
العوامل الداخلية لتأخر المسلمين
في سياق تتبعنا لحركة التاريخ يلفت نظرنا ما يمكن تسميته "دور المفسدين في
تخريب الحضارات"، وقد نال هذا الدور اهتمام القرآن وأحاديث الرسول ص حيث
نجد التأكيد الدائم على إدانة هؤلاء المفسدين من الظالمين والمستبدين
والجهال وأدعياء العلم والمغالين.
ويمكن القول إن قضية الانحطاط الحضاري يجب النظر إليها في إطار ارتباطها
بسنن كونية صارمة، منها ما ورد النص عليه في القرآن الكريم ومنها ما أكدته
حوادث التاريخ، إلا أن ذلك لا يعني عدم بحث القضية من منظور اجتماعي سياسي
لمعرفة كيف حدث الانحطاط من خلال الممارسات العلمية اجتماعياً وسياسياً حتى
فقد المسلمون مركز السيادة، وانتقلت قيادة البشرية إلى الغرب، وذلك كمحصلة
لمجموعة من عوامل الضعف والانهيار من داخل المجتمع ومن خارجه.
تشمل عوامل الضعف والانهيار النواحي الاجتماعية والسياسية والفكرية، وقد
تجسدت المحصلة النهائية التي أدت إليها تلك العوامل في حقيقة واقع
الانحطاط. تلك الحقيقة تجسدت مرتين في حياة الأمة الإسلامية: كانت الأولى
في القرن السادس الهجري، عندما تم تمزيق كيان الأمة والقضاء على الدولة
الإسلامية المركزية بأيدي التتار، وكانت الثانية في القرن الرابع عشر
الهجري عندما سقطت البلدان الإسلامية واحدة تلو الأخرى تحت هيمنة الاستعمار
الأوروبي، وفي المرتين كانت عوامل التحلل والانحطاط قد تسللت إلى كيان
الأمة وتركت وراءها أمماً مبعثرة ودويلات صغيرة تتوق إلى الوحدة وتتوثب إلى
النهوض، لكنها لا تقدر على ذلك بسبب المنازعات والحروب الداخلية. وفيما
يلي بيان رؤيتنا لمختلف العوامل الداخلية التي أدت إلى الانحطاط:
1 - العوامل الاجتماعية: وهي عبارة عن مجموعة من الممارسات والسلوكيات التي
أدت إلى انقلاب في أوضاع القيم التي قام عليها المجتمع الإسلامي. وقد
تمثلت مقدمات هذا الانقلاب في "ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وترك
التواصي بالحق والصبر وإهمال التناصح، وفساد العرف العام، فاضطربت موازين
الحسن والقبح في الأمة، وفي ظل تلك الظروف حدث الانقلاب، وانهار البناء
الاجتماعي(1).
وفي تحليل عوامل الضعف في المجتمع يمكننا الانطلاق من قول الله تعالى: وإذا
أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها
تدميرا (16) (الإسراء).
ويرى ابن خلدون أن ظواهر الانغماس في "الترف" و"طغيان النساء" و"فسق
الشباب"؛ تلك الظواهر هي نتيجة لترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،
والابتعاد عن المبادئ والقيم التي حض عليها الإسلام، وحذر من التهاون فيها.
وثمة علاقة بين شيوع عناصر التحلل وتداعيات نتائجها في المجتمع، وبين أن
يصبح هذا المجتمع عرضة للوقوع تحت هيمنة قوى أجنبية متسلطة فيظهر من ثم
"الاستعمار"، وهذه العلاقة هي التي عناها مالك بن نبي فيما بعد بما أسماه
"القابلية للاستعمار"، حيث يصير الاستعمار في تلك الحالة "ضرورة
تاريخية"(2).
ولكن من المسؤول عن بدء سريان عوامل التحلل والضعف الاجتماعي في كيان
الأمة؟ يرى البعض "أن طغيان النساء هو الشرارة الأولى التي تفسد الحياة
الاجتماعية للأمة(3)، ويحدد ما يعنيه بطغيانهن فيقول: "إذا جاوزت المرأة
الحدود التي حدها لها الدين وخرجت على قانون الطبيعة وخالفت وظيفتها في
الحياة وتناهت في التزين والتبرج (...) ودانت بالإباحية والتهتك، كان ذلك
أول مؤذن بدبيب الفساد إلى صميم الأمة القوية"(4)، كما قال الإمام البنا
يرحمه الله.
وطغيان النساء سبب للفساد من منظور أن الطغيان في أي شيء يمكن أن يؤدي إلى
الانحلال، لكنا نميل إلى اعتبار ما ذكره البنا عن طغيان النساء وتجاوزهن
وظيفتهن في الحياة مظهراً من مظاهر الانحطاط والتدهور في حياة الأمة أكثر
من كونه سبباً من أسبابه، فضلاً عن أن يكون أول بداية للفساد في "صميم
الأمة القوية"، وذلك لسببين على الأقل: الأول هو أن ما ذكره لا ينطبق على
ما حدث للأمة الإسلامية في الماضي وهي قوية، إذ من الأرجح أن تكون جرثومة
الفساد السياسي واستبداد الحكم هي أصل كل فساد جرى بعد ذلك في المجتمع،
والثاني هو أن ما ذكره لا ينطبق على واقع الأمة في العصور الحديثة، حيث
كانت قد وصلت بالفعل إلى أدنى دركات الضعف والاستكانة، كما أن أوضاع المرأة
كانت في غاية السوء، الأمر الذي دعا أنصار التغرب والاقتداء بأوروبا إلى
المناداة بتحرير المرأة ومنحها حقوقها ومساواتها بالرجل... إلخ.
والحق أنه لا يمكن فهم العبارات السابقة عن المرأة ودورها إذا طغت بالمعنى
المشار إليه في إفساد الحياة الاجتماعية، بعيداً عن سياق الجدل الفكري
وخصائص المرحلة التي هيمن فيها الاستعمار الأوروبي على العالم الإسلامي
خلال القرنين الماضيين؛ إذ كان الصراع دائراً على أشده خلال العشرينيات
والثلاثينيات من القرن العشرين حول ما كان يسمى "القديم" و"الجديد"، وإلحاح
أنصار الجديد في الدعوة لخروج المرأة ومشاركتها للرجل في العمل مشاركة
الند للند في كل الأعمال بلا تمييز، ونبذ الحجاب، والاقتداء بالمرأة
الغربية في كل شيء كجزء من التوجه العام لدعاة "التغرب" أو "الفَرْنَجة".
وكان لابد في ظل هذا المناخ من التحذير من مخاطر التوجه نحو الغرب
لاعتبارات كثيرة منها ما يتعلق بقضية الاستقلال، ومنها ما يتعلق بالهوية
الإسلامية والحرص على عدم الذوبان في نمط الحياة الغربية.
____________________________
الهوامش
1 - انظر وقارن هذه النتيجة التي تؤدي إليها رؤية البنا مع ما يصل إليه مالك بن نبي، وجهة العالم الإسلامي، المجتمع س ذ.، ص 29 30.
2 - انظر: مالك بن نبي، وجهة العالم الإسلامي، ص18، 99، وتكاد رؤيته تتفق
تماماً مع ما ذكره البنا، والسبب الأساسي في هذا الاتفاق هو صدور البنا
وابن نبي عن مصدر واحد وهو القرآن وما نص عليه من سنن كونية مطردة.
3 - حسن البنا، من أعلام النبوة، ج. أ. المجتمع . س. 21213 ربيع الثاني 1353ه.
4 - المقال السابق نفسه.
__________________________________________________ _____
العوامل السياسية لتأخر المسلمين
بعد عرض العوامل الاجتماعية الداخلية لتأخر المسلمين نتطرق اليوم للعوامل السياسية:
2 - العوامل السياسية: وهي مجموعة العوامل التي ارتبطت بوضع السلطة في
تاريخ الدولة الإسلامية وانحرافات القائمين عليها في ممارساتهم المختلفة عن
النسق القياسي لها، كما كان في فترة الخلافة الراشدة. وأهم ما نركز عليه
في هذا الصدد كأسباب أدت إلى التدهور والانحطاط كثرة الخلافات السياسية،
وعودة النزعة العصبية والشعوبية، وانغماس حكام المسلمين في ألوان الترف
والتبذير (...) حتى أثر ذلك عن حكام المسلمين في كثير من العصور السابقة
ولا يزال كثير منهم حتى عصرنا الراهن ما لم يؤثر عن غيرهم، مع أنهم يقرأون
قول الله تبارك وتعالى: وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها
فحق عليها القول فدمرناها تدميرا (16) (الإسراء).
وينظر البعض إلى وصول عناصر غير عربية من الفرس وغيرهم إلى السلطة باعتباره
عاملاً من العوامل السياسية التي أسهمت في الانحطاط، والسبب في رأيهم أن
أمثال هؤلاء من الفرس والديلم والمماليك والأتراك وغيرهم هم "ممن لم
يتذوقوا طعم الإسلام الصحيح، ولم تشرق قلوبهم بأنوار القرآن لصعوبة إدراكهم
لمعانيه، مع أنهم يقرءون أي الخلفاء الذين استخدموا تلك العناصر في الحكم
قول الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم
خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد
بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون 118 (آل عمران) (1).
ويؤكد هذا المعنى الإمام محمد عبده، وهو يصور استبداد تلك العناصر بالسلطة
دون الخلفاء فيقول: "هنالك استعجم الإسلام وصارت الدولة في قبضتهم، ولم يكن
لهم ذلك العقل الذي راضه الإسلام، والقلب الذي هذبه الدين، بل جاءوا إلى
الإسلام بخشونة الجهل، يحمل ألوية الظلم، لبسوا الإسلام على أبدانهم، ولم
ينفذ منه شيء إلى وجدانهم، وكثير منهم كان يجعل إلهه معه يعبده في خلوته،
ويصلي مع الجماعات لتمكين سلطته، ثم عدا على الإسلام آخرون، كالتتار
وغيرهم، ومنهم من تولى أمره"(2).
إن ما سبق لا ينطوي على أي اتجاه للغض من شأن المسلمين غير العرب كما قد
يتبادر إلى الذهن فقط نحن نقرر حقيقة تاريخية أظهرت أن تلك العناصر أسهمت
في الإفساد للأسباب السابق ذكرها، وليس من الممكن إنكار الجهود التي بذلها
بعض المماليك والأتراك على سبيل المثال في مجال الدفاع عن ديار الإسلام
وتحريرها من التتار والصليبيين، من أمثال صلاح الدين الأيوبي، والظاهر
بيبرس، وسيف الدين قطز....الخ.
وثمة أهمية "لترف الحكام" وغرورهم بسلطانهم والانخداع بقوتهم في تفسير حالة
الانحطاط التي وصل إليها العالم الإسلامي؛ إذ غالباً ما يصحب الترف
والإهمال والطغيان وغياب الشورى إهمال النظر في التطور الاجتماعي وإهمال
مصالح الأمة بشكل عام، وينطبق هذا على القرون الأخيرة في تاريخ الدولة
الإسلامية، وهي القرون نفسها التي كانت أوروبا تشهد فيها حركات النهضة
والثورات الصناعية والاجتماعية والعلمية، ومن ثم يمكن القول إن إدانة سياسة
العزلة التي فرضتها الدولة العثمانية على العالم الإسلامي في العهود
الأخيرة لتلك الدولة، لا تقل أهمية عن إدانة الإعجاب بنمط حياة الغرب،
والاندفاع في تقليدهم فيما يضر ولا ينفع، مع النهي الشديد عن التشبه بهم،
والأمر الصريح بمخالفتهم والمحافظة على مقومات الأمة الإسلامية، والتحذير
من مغبة هذا التقليد، قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من
الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين 100 (آل عمران).
___________________________
الهوامش :
1 - انظر: حسن البنا، شعب دين الإسلام، مقال بمجلة التعارف الأسبوعية، 6 5
14صفر 1359 13مارس 1940، حيث يذكر: "أن ضعف المسلمين سياسياً وروحياً كان
على أيدي الموالي وأبناء الأجنبيات عنهن".
2 - انظر: محمد عبده، الإسلام والنصرانية، 134، 135.
__________________________________________________ _____
العلل الفكرية والعوامل الخارجية لتأخر المسلمين
* العلل الفكرية: إن المسلمين قد أصابت عالم أفكارهم مجموعة من العلل التي
أدت إلى الركود، وكانت من مظاهر الانحطاط في الوقت نفسه. وهي نابعة في
جملتها من الجهل بالإسلام، شأنها شأن العلل الاجتماعية والسياسية. ويمكن
القول إن "الخلافات الدينية والمذهبية" التي وقعت بين المسلمين تأتي في
مقدمة العلل الفكرية التي أدت إلى انحطاطهم، فمثل تلك الخلافات صرفتهم عن
الدين كعقائد وأعمال إلى ألفاظ ومصطلحات ميتة لا روح فيها ولا حياة.
وكان "الجمود" أو "كابوس التقليد" من أهم الآثار التي أوجدها "التعصب
للرأي، كما أن علة الجمود كانت في حد ذاتها من أخطر العلل التي أصابت
الحياة الفكرية، ويكفي أنها كرست حالة الفرقة وأدت إلى مزيد من تمزيق وحدة
الأمة في سبيل الانتصار للرأي والتشبث به، وعدم الاجتهاد لفهم آراء الآخرين
وإزالة نقاط الخلاف، وتوحيد قوى الأمة، ولمّ شتاتها لتكون أقوى على مواجهة
التحديات.
ويضاف إلى ما سبق ما تشهده مجتمعات الأمة أيضاً منذ قرنين تقريباً من
انقسام يشق النخب الثقافية والفكرية من أبنائها بين فريقين غير متجانسين
هما المتغربون والسلفيون، أما الفريق الأول من المتأوربين فأنصاره يدعون
إلى اقتفاء أثر الحضارة الغربية بحلوها ومرها، ما يحب منها وما يستكره (على
حد تعبير طه حسين الذي تزعم هذا الاتجاه خلال النصف الأول من القرن
الماضي)، وأما الفريق الثاني من المتمسكين بالأصول الكبرى التي قامت عليها
الحضارة الإسلامية وازدهرت بسببها فهم على النقيض من الفريق الأول، يقفون
موقف الأصالة والمحافظة على الهوية الذاتية للأمة، ويدعون إلى تأسيس النهضة
المرجوة على الأسس المستمدة من العقيدة الإسلامية التي تدين بها الأمة في
أغلبيتها الساحقة، ويرون أن التفريط في هذه الأصول هو السبب الرئيس لحالة
الانحطاط والتخلف التي تعانيها الأمة على كل المستويات السياسية
والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وأن طريق النهضة لابد أن يبدأ بالعودة
إلى هذه الأصول.
وفي رأينا أن للاستبداد السياسي دوراً في إيجاد واستمرار العلل الفكرية في
حياة الأمة، فالرؤساء والحكام الذين يحكمون بالقهر ويكبتون الحرية ويأبون
أن يصل بصيص النور إلى أممهم ورعاياهم، أو يتسرب شعاع العلم والمعرفة إلى
دورهم (...) سجانون، حكموا على هذه الشعوب بسجن مؤبد؛ لأنهم عن نور العلم
محجوبون، ومن لذة المعرفة محرومون.
* العوامل الخارجية : تتمثل هذه العوامل في محاولات القضاء على الأمة
الإسلامية من قبل أعدائها في العصور السابقة، ومن قبل القوى الاستعمارية في
العصر الحديث، وقد تمكنت هذه القوى من إخضاع البلدان الإسلامية كافة
ووضعها تحت سيطرتها منذ ما يقرب من قرنين.
ولا تنفصل محصلة العوامل الداخلية للانحطاط عن دور العامل الخارجي، فثمة
علاقة ارتباطية وثيقة بين الجانبين ضمن الإطار الأشمل للصراع الحضاري بين
الشرق والغرب؛ ذلك لأنه إذا كانت العوامل الداخلية قد مهدت للغزو من الخارج
وهو ما عبر عنه مالك بن نبي ب "القابلية للاستعمار" و"الاستعمار" فإن
التقاءهما تمخض عنه واقع العالم الإسلامي في تاريخه الحديث والمعاصر الذي
عبر عن وصول حالة الأمة الإسلامية إلى قاع التدهور الذي تعيشه في واقعها
الراهن.
ورغم كل ما سبق، ورغم أن كل الأوضاع في ظاهرها تدعو المتعجل إلى الشعور
بالعجز أو الإحباط من الإصلاح، فإن يقظة روح التحدي التي نشهدها على
مستويات متعددة: فكرياً وحركياً، سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، كلها ترجع
إلى اشتداد الهيمنة الاستعمارية، كما ترجع أيضاً إلى الرغبة في التخلص من
عناصر الضعف الداخلية. ونحن نختلف في رؤيتنا تلك للأثر الإيجابي للتحدي
الاستعماري الغربي، عن رؤية فريق المتغربين الذين رأوا في الوجود
الاستعماري عاملاً من عوامل التحديث والأخذ بأيدي البلدان المتخلفة نحو
التقدم والرقي "الغربي".
والسؤال الآن: ما الخلاصة العملية التي يمكن التوصل إليها من تفسيرنا
لأسباب الانحطاط وما وصل إليه حال الأمة؟ إن هذه الخلاصة يمكن صياغتها
بإيجاز في القول بأن سر تأخر المسلمين هو ابتعادهم عن دينهم، وأن هذا
الابتعاد قد نتج عن الإغراق في الترف وتمثل في الركون إلى الدعة، والتحلل
الأخلاقي، والفرقة والخلافات التي مزقت وحدة الأمة فكرياً وسياسياً
واجتماعياً، وسيادة أنظمة الحكم الاستبدادي، وتعطيل كثير من أحكام الإسلام
وشرائعه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، بما في ذلك تعطيل فريضة الشورى،
وفريضة الجهاد، فكان من نتيجة ذلك أن سهل على الاستعمار بسط سيطرته وتدمير
الدولة الإسلامية. وفي جملة واحدة فإن أعظم ما مني به المسلمون بعد
ابتعادهم عن دينهم هو داء الفرقة وانفراط عقد الوحدة.
__________________________________________________ _____
الأسس الروحية والدعائم السياسية للنهضة
تَبيَّن مما سبق ذكره في الأعداد السابقة على هذه الصفحة أن مفهوم النهضة
بحكم أنه مستمد من القرآن الكريم يتضمن التقدم المادي (التكنولوجي) أو ما
كان يسمى بمصطلحات بدايات القرن العشرين ب"التمدن"، هذا بشرط أن يكون
منضبطاً بالقيم الإسلامية، وخاصة ما كان من تلك القيم ذا طابع إنساني عام،
بالإضافة إلى طابعها الخاص على المستوى الفردي والاجتماعي كالعدل والمرحمة
والتعاون والأخوة الإسلامية.
لكن كيف يمكن أن يتحقق هدف النهضة عملياً ؟ ذلك لن يكون إلا بعودة المسلمين
إلى الإسلام وإحياء تعاليمه ومبادئه في مختلف مجالات الحياة، ومن استقراء
التاريخ نجد ما يؤكد ذلك؛ فيوم كان المسلمون مسلمين كانوا سادة، ويوم نبذوا
هذا الإسلام وشرعوا لأنفسهم وصلوا إلى ما هم فيه، وسيظلون كذلك حتى يعودوا
إلى دينهم. وتلخص العبارة السابقة ما يمكن أن نسميه "وجهة النهضة"؛ فهي
مرهونة بالعودة إلى الإسلام في صفائه الأول، لا بالتوجه ناحية "الغرب ".
وهذا ما نادى به معظم رواد التجديد والإصلاح الإسلامي في العصر الحديث منذ
محمد بن عبد الوهاب مروراً بالأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا وشكيب أرسلان،
وحسن البنا، وسيد قطب وغيرهم. فقد "انطلقوا من مبدأ التوحيد النظري بين
الإسلام والمدنية"(1) (أو النهضة) أما الأسس الجوهرية التي ينبغي التعويل
عليها من أجل تحقيق تلك النهضة عملياً، فغالباً ما نظروا إليها نظرة أحادية
تؤكد أساساً واحداً جوهرياً باعتباره محور القضية وما عداه فروع مكملة له،
فمثلاً "كان هذا الأساس عند بعضهم عقيدياً مشتقاً من عقيدة التوحيد، وكان
عند بعضهم الآخر سياسياً مستلهماً من ضرورة السلطة الوازعة، وكان عند
الآخرين أمراً قيمياً مؤسساً على القيم الاجتماعية والأخلاقية
والاقتصادية(2).
وقد أدرك البعض أن تعدد علل الانحطاط يستوجب تعدد الأسس التي تقوم عليها
النهضة، ومن هنا تعتبر سمة الشمول في النظر والإحاطة بالجوانب المختلفة
للقضية، إحدى المحددات المنهجية في التفكير بصفة عامة، وفيما يخص قضية
النهضة المنشودة بصفة خاصة.
وليس من المهم الآن الدخول في تفاصيل تفنيد الاتجاهات غير الإسلامية التي
جعلت "الغرب" قبلة لها، فقد ثبت لمعظم أصحاب تلك الاتجاهات أنفسهم خطأ
توجهاتهم نحو الغرب وتنكرهم للإسلام. إن المهم هنا هو بيان التصورات
الفكرية الخاصة بالأسس والدعائم التي تشكل في مجموعها شروطاً لتحقيق
النهضة. ويمكن تقسيم تلك الأسس إلى روحية ومادية، وتقسيم الدعائم إلى فكرية
وسياسية.
الأسس الروحية والمادية للنهضة .
إن علينا أن نولي اهتماماً كبيراً للجوانب الروحية والمادية معاً، كأسس
لازمة للنهضة، وذلك في مواجهة الأفكار التي تروجها الاتجاهات العلمانية
الداعية لاقتفاء أثر الغرب في كل شيء، حتى في الفصل بين الناحيتين المادية
والروحية. إن الأمة تحتاج في نهضتها إلى "الإيمان القوى.. المرتكز على
قواعد ثابتة من روحها ونظريتها.. وإلى القوة المادية التي يظهر بها هذا
الإيمان فيعرب للناس عن وجوده ويبرهن للخصوم على قوته وثباته"(3).
ويشمل الجانب الروحي كأساس للنهضة مجموعة من الأخلاقيات والفضائل النفسية
كلها ترتبط وتصدر عن "الإيمان بالله"؛ هذا الإيمان الذي يقتضي الإيمان
بعظمة الرسالة الإسلامية، والاعتزاز باعتناقها، والأمل في تأييد الله
لأهلها.
ولهذا فإن من المهم تبديد مشاعر اليأس لدى المسلمين وترسيخ الأمل في
نفوسهم. والعبر التي أشار إليها القرآن والتي نبهت إليها السنة وكذلك عبر
التاريخ وسنن الاجتماع، كلها تؤكد ما ذكرنا؛ فالقرآن يضع اليأس في مرتبة
الكفر، وكذلك يقرن القنوط بالضلال قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون
(56) (الحجر). وإن القرآن ليقرره ناموساً كونياً لا يتبدل ونظاماً ربانياً
لا يتغير: أن الأيام دول بين الناس وأن القوي (الغرب الآن) لن يستمر على
قوته أبد الدهر، والضعيف (أمة المسلمين الآن) لن يدوم عليه ضعفه مدى
الحياة، ولكنها أدوار وأطوار تعترض الأمم والشعوب كما تعترض الآحاد من
الأفراد.
ومن الأخلاق المرتبطة بالجانب الروحي والتي يجب أن يتحلى بها إنسان النهضة
الإسلامية المنشودة "خلق الصبر"، وهو أول اللبنات القوية في بناء الأمم
الناهضة، وذلك هو السر في أن الله فرضه على المؤمنين وأمرهم به "فلا نهوض
إلا بعزيمة ولا نصر إلا مع الصبر"(4). إن تلك الأخلاق وغيرها من الفضائل لن
تأتي من "الغرب" صاحب المدنية الحديثة؛ إذ إنه مفتقر إليها أصلاً، وإنما
مصدرها الوحيد بالنسبة لشعوب الأمة العربية والإسلامية هو "الإسلام".
وإذا كنا نرى ضرورة قيام النهضة على أسس تجمع بين الروح والمادة، فإن أنصار
"التغريب" مازالوا مصرين على آرائهم في ضرورة تقليد الغرب "وإلقاء قنبلة
الاستسلام للأوروبي"(5) حسب وصف علي شريعتي هذا في الوقت نفسه الذي سبق أن
انتقد فيه كبار مفكري الغرب حضارتهم ويضجون بالشكوى من المأساة الروحية
التي تعيشها المجتمعات الغربية.
علينا أيضاً ألا نغفل الجانب المادي كأساس للنهضة، وأن نؤكد أهمية ارتباطه
بالعوامل الروحية ومنظومة الأخلاق الفاضلة التي حض عليها الإسلام، وإذا كان
كثير من الناس يظن أن الشرق تعوزه القوة المادية من المال والعتاد وآلات
الحرب لينهض ويسابق الأمم التي سلبته حقه، فإن ذلك صحيح ومهم، ولكن أهم منه
وألزم القوة الروحية من الخلق الفاضل والنفس النبيلة، والإيمان بالحقوق
ومعرفتها، والإرادة الماضية في سبيل الواجب، والوفاء الذي تنبني عليه الثقة
والوحدة وعنهما تكون القوة. إن العالم الإسلامي لو آمن بحقه وغير من نفسه
واعتنى بقوة الروح وعني بتقويم الأخلاق لأتته وسائل القوة المادية من كل
جانب وعند صحائف التاريخ الخبر اليقين.
إن التراث الروحي لأمتنا من شأنه إذا قُدم بشكل صحيح، أن يقيل حضارة الغرب
الحديثة من عثراتها الروحية، بل إن الغرب نفسه مضطر إن عاجلاً أو آجلاً إلى
الاقتباس من "روحانية الشرق".
الإدارة المدرسية لكل الأطوار التعليمية :: ~*¤ô§ô¤*~ 00*لإدارة العامة *00 ~*¤ô§ô¤*~ :: منتدى البحوث التربوية والادارية
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى